الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{يا أيّها الذين ءَامَنُواْ اجتنبوا كَثِيرًا مِّنَ الظن} يقال: جنبه الشر إذا أبعده عنه.وحقيقته جعله في جانب فيعدى إلى مفعولين قال الله تعالى: {واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} [إبراهيم: 35] ومطاوعه اجتنب الشر فنقص مفعولًا والمأمور باجتنابه بعض الظن وذلك البعض موصوف بالكثرة ألا ترى إلى قوله: {إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} قال الزجاج: هو ظنك بأهل الخير سوأ، فأما أهل الفسق فلنا أن نظن فيهم مثل الذي ظهر منهم.أو معناه اجتنابًا كثيرًا أو احترزوا من الكثير ليقع التحرز عن البعض، والإثم: الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب ومنه قيل لعقوبته الأثام فعلا منه كالنكال والعذاب {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم.يقال: تجسس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه تفعل من الجس.وعن مجاهد: خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر الله.وقال سهل: لا تبحثوا عن طلب معايب ما ستره الله على عباده {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} الغيبة الذكر بالعيب في ظهر الغيب وهي من الاغتياب كالغيلة من الاغتيال، وفي الحديث «هو أن تذكر أخاك بما يكره» فإن كان فيه فهو غيبة وإلا فهو بهتان.وعن ابن عباس: الغيبة إدام كلاب الناس.{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} {مَيِّتًا} مدني.وهذا تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه، وفي مبالغات منها: الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولًا بالمحبة، ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحدًا من الأحدين لا يحب ذلك، ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخًا، ومنها أن لم يقتصر على لحم الأخ حتى جعل ميتًا.وعن قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي، وانتصب {مَيْتًا} على الحال من اللحم أو من أخيه، ولما قررهم بأن أحدًا منهم لا يحب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله: {فَكَرِهْتُمُوهُ} أي فتحققت كراهتكم له باستقامة العقل فليتحقق أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة باستقامة الدين {واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} التواب: البليغ في قبول التوبة، والمعنى واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه فإنكم إن اتقيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين.ورُوي أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوي لهما طعامهما فنام عن شأنه يومًا فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما إدامًا وكان أسامة على طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها.فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما فقالا: ما تناولنا لحمًا، قال: إنكما قد اغتبتما ومن اغتاب مسلمًا فقد أكل لحمه.ثم قرأ الآية، وقيل: غيبة الخلق إنما تكون من الغيبة عن الحق.{يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} من آدم وحواء أو كل واحد منكم من أب وأم فما منكم من أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر سواء بسواء فلا معنى للتفاخر والتفاضل في النسب {وجعلناكم شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ} الشعب الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي: الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة.فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة، وسميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها {لتعارفوا} أي إنما رتبكم على شعوب وقبائل ليعرف بعضكم نسب بعض فلا يعتزى إلى غير آبائه، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد وتدعوا التفاضل في الأنساب.ثم بين الخصلة التي يفضل بها الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} في الحديث: «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى.ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «الحمد لله الذي أذهب عنكم عِبُية الجاهلية وتكبرها يا أيها الناس إنما الناس رجلان: مؤمن تقي كريم على الله وفاجر وشقي هين على الله» ثم قرأ الآية.وعن يزيد بن شجرة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول: من اشتراني فعلى شرط أن لا يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.فاشتراه بعضهم فمرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توفي فحضر دفنه فقالوا في ذلك شيئًا فنزلت {إِنَّ الله عَلِيمٌ} كرم القلوب وتقواها {خَبِيرٌ} بهمّ النفوس في هواها.{قالتِ الأعراب} أي بعض الأعراب لأن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر وهم أعراب بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة فاظهروا الشهادة يريدون الصدقة ويمنون عليه {ءَامَنَّا} أي ظاهرًا وباطنًا {قُلْ} لهم يا محمد {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} لم تصدقوا بقلوبكم {ولكن قولواْ أَسْلَمْنَا} فالإيمان هو التصديق، والإسلام الدخول في السلم والخروج من أن يكون حربًا للمؤمنين بإظهار الشهادتين، ألا ترى إلى قوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان في قُلُوبِكُمْ} فاعلم أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان، وهذا من حيث اللغة.وأما في الشرع فالإيمان والإسلام واحد لما عرف، وفي {لَّمًّا} معنى التوقع وهو دال على أن بعض هؤلاء قد آمنوا فيما بعد.والآية تنقض على الكرامية مذهبهم أن الإيمان لا يكون بالقلب ولكنَّ باللسان، فإن قلت: مقتضى نظم الكلام أن يقال: قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا، أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم.قلت: أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولًا فقيل {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} مع أدب حسن فلم يقل كذبتم تصريحًا ووضع {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} الذي هو نفي ما ادعوا إثباته موضعه واستغنى بقوله: {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} عن أن يقال لا تقولوا آمنا لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان، ولم يقل ولكن أسلمتم ليكون خارجًا مخرج الزعم والدعوى كما كان قولهم آمنا كذلك.ولو قيل ولكن أسلمتم لكان كالتسليم والاعتداد بقولهم وهو غير معتد به.وليس قوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان في قُلُوبِكُمْ} تكريرًا لمعنى قوله: {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} فإن فائدة قوله: {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} تكذيب لدعواهم وقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان في قُلُوبِكُمْ} توقيب لما أمروا به أن يقولوه كأن قيل لهم: ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في {قولواْ}.{وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} في السر بترك النفاق {لاَ يَلِتْكُمْ} {لا يألتكم}: بصري {مِّنْ أعمالكم شَيْئًا} أي لا ينقصكم من ثواب حسناتكم شيئًا.ألت يألت وألات يليت ولات يليت بمعنى وهو النقص {أَنَّ الله غَفُورٌ} بستر الذنوب {رَّحِيمٌ} بهدايتهم للتوبة عن العيوب.ثم وصف المؤمنين المخلصين فقال: {إِنَّمَا المؤمنون الذين ءَامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة، والمعنى أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ولا اتهام لما صدقوه.ولما كان الإيقان وزوال الريب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيهًا على مكانه، وعطف على الإيمان بكلمة التراخي إشعارًا باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضًا جديدًا {وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ في سَبِيلِ الله} يجوز أن يكون المجاهد منويًا وهو العدو المحارب أو الشيطان أو الهوى، وأن يكون جاهد مبالغة في جهد، ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس الغزو وأن يتناول العبادات بأجمعها وبالمجاهدة بالمال نحو صنيع عثمان في جيش العسرة، وأن يتناول الزكاة وكل ما يتعلق بالمال من أعمال البر.وخبر المبتدأ الذي هو {المؤمنون} {أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون} أي الذين صدقوا في قولهم آمنا ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد أو هم الذين إيمانهم إيمان صدق وحق.وقوله: {الذين آمَنُواْ} صفة لهم.ولما نزلت هذه الآية جاءوا وحلفوا أنهم مخلصون فنزل {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} أي أتخبرونه بتصديق قلوبكم {والله يَعْلَمُ مَا في السماوات وَمَا في الأرض والله بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ} من النفاق والإخلاص وغير ذلك {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ} أي بأن {أَسْلَمُواْ} يعني بإسلامهم.والمن ذكر الأيادي تعريضًا للشكر {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} أي المنة لله عليكم {أَنْ هَداكُمْ} بأن هداكم أو لأن {للإيمان إِنُ كُنتُمْ صادقين} إن صح زعمكم وصدقت دعواكم إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان بالله فلله المنة عليكم وقرئ {إِنْ هَداكُمْ} {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وبالياء: مكي.وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم يعني أنه تعالى يعلم كل مستتر في العالم ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم لا يخفي عليه منه شيء فكيف يخفي عليه ما في ضمائركم وهو علام الغيوب؟. اهـ.
|